
ناصر زهير | مستشار العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي
اقترب السباق نحو البيت الأبيض من نهايته ويبدو بأن الأربع سنوات القادمة ستكون حاسمة ومفصلية للولايات المتحدة الأمريكية وتحالفاتها السياسية والاقتصادية في حال فوز ترمب بولاية رئاسية ثانية أو فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن بانتخابات تشهد تجاذبات كبيرة بين الجمهوريين والديمقراطيين الذي يسعون الى تغيير بوصلة واشنطن من جديد .
ولا يبدو الأوروبيون بعيدين عن التجاذبات والتغيرات التي ستحكم المشهد الأمريكي في واشنطن بعد فوز أحد المرشحين الجمهوري ترمب أو الديمقراطي بايدن، وفي كلتا الحالتين سيكون على قادة أوروبا الاستعداد لمواجهة كبرى في ملفات عديدة يشترك فيها الجانبين الأمريكي والأوروبي ومنها " الملف النووي الإيراني، والحرب التجارية، وحلف الناتو ، والصراع مع الصين " والنقطة الأبرز بأن الأوروبيين لا يتمتعون بتوافق كامل مع أحد المرشحين .
ـ هل يفضل الأوروبيون ترمب أم بايدن للوصول الى البيت الأبيض؟
تشير معظم استطلاعات الرأي في فرنسا وألمانيا وعموم أوروبا بأن هناك تفضيل لبايدن على ترمب، وبالنسبة للدول الأوروبية فإن وصول مرشح ديمقراطي مثل بايدن سيبدو أكثر ايجابية من التعامل مع ترمب لأربع سنوات أخرى سيكون فيها أكثر شراسة واندفاعا لتنفيذ كافة مشاريعه السياسية والاقتصادية .
ولكن لا تبدو الصورة ايجابية الى هذا الحد فالأوروبيون يتخوفون أيضا من بايدن ومشروعه السياسي والاقتصادي القادم، كما أن الدول الأوروبية باتت أكثر تمرسا في التعامل مع دونالد ترمب والتعامل معه بنفس الطريقة التي يفهمها، بمعنى عندما يفرض ترمب رسوم على واردات الصلب الأوروبية فإن فرنسا والأوروبيون يقومون بفرض رسوم على الشركات الرقمية الأمريكية " GAFA "، كما أن الخلافات الأوروبية الأمريكية والتباين في السياسات بما يخص ايران ولبنان وليبيا على سبيل المثال استطاع الأوروبيون إدارتها بالحد الأدنى .
ولا تفضل الدول الأوروبية الأن رسم خطط سياسية واقتصادية جديدة للتعامل مع رئيس جديد للولايات المتحدة خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي تسببت بها جائحة كورونا ولذلك يبدو بأن التعامل مع كلا المرشحين أمر متساوي بالنسبة لقادة بروكسل .
ـ تصّورات عكس التيار ؟
بالإشارة الى استطلاعات الرأي والمؤشرات السياسية التي تشير الى تفضيل الأوروبيين لبايدن ليكون سيد البيت الأبيض الجديد، إلا أن هناك توجه ما عكس التيار يمكن طرحه في هذا التوقيت الحساس من الصراعات السياسية والاقتصادية التي تعيشها الساحة الدولية .
ومن هذه النقاط :
سياسات ترمب ضد حلفائه الأوروبيين عززت الاتجاه الأوروبي للاستقلالية السياسية والعسكرية والابتعاد عن التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا المشروع حمله معه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ وصوله الى قصر الإليزيه ولكنه فشل في إقناع باقي الدول الأوروبية بجدوى مشروعه وعموده الفقري " الجيش الأوروبي الموحد" . ولكن بعد التوترات التي أحدثتها سياسيات ترمب فإن مشروع الاستقلالية الأوروبية سياسيا وعسكريا بدأ يتبلور ويلقى قبولا أكبر لدى باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي ويمكن النظر الى هذا الاتجاه عبر نشر القوات الأوروبية المشتركة في مضيق هرمز لحماية المصالح الأوروبية هناك، وعبر مشروع المظلة النووية المشتركة الذي طرحته فرنسا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي . و وجود ترمب في السلطة لأربع سنوات أخرى سيكون عامل ايجابي في تحقيق المشروع الأوروبي المستقل سياسيا وعسكريا خاصة مع رغبة أوروبية بالخروج من الناتو تقودها فرنسا عبر تصريحات ماكرون التي قال فيها بأن "الناتو ميت دماغيا"، وأيضا رغبة ترمب بالابتعاد أكثر عن سياسة مصالح الحلفاء ورفعه لشعار أمريكا أولا .
تبرز النقطة الثانية في فرضية معاقبة الصين وإجبارها على دفع تعويضات اقتصادية ضخمة في حال أثبتت التحقيقات الدولية مسؤوليتها عبر تسرب الفيروس من أحد مختبرات ووهان، أو على أقل تقدير أن تكون الصين قد كذبت بشأن المعلومات على العالم مما سبب هذه الأزمة الصحية والاقتصادية الكبرى، وبالتزامن مع موجة ثانية أشد فتكا لكورونا فلا يبدو بأن الدول الأوروبية ستبقى صامتة على الخسائر الفادحة التي منيت بها، ويبدو ترمب متحمسا لفكرة معاقبة الصين واجبارها على دفع تعويضات على عكس منافسه الديمقراطي جو بايدن .
من الناحية النظرية فإن التعامل مع بايدن سيكون أسهل بالنسبة للأوروبيين خاصة بعد أن وعد بفتح صفحة جديدة مع الحلفاء التقليديين لواشنطن، ولكن أيضا الدول الأوروبية لا تريد أن يكون هناك فترة هدوء لأربع سنوات تنتهي مع وصول رئيس جديد للولايات المتحدة يشبه دونالد ترمب وقد يقلب الطاولة من جديد .
وبات الأوروبيون أكثر استعدادا لمواجهة ترمب إذا ما فاز بولاية ثانية وقرر خوض حرب تجارية مع منطقة اليورو وهذا ما أشار اليه مرارا في فترة رئاسته الأولى، أما على صعيد الملفات الدولية الأخرى والمشتركة بين الجانبين فيبدو بأن هناك إمكانية التفاهم بالحد الأدنى مع ترمب في فترته الثانية، وتبدو نقاط الاتفاق بين الجانبين بما يخص الصين وروسيا وشرق المتوسط أكبر من نقاط الخلاف حول إيران والحرب التجارية وحلف الأطلسي، وفي النقطتين الأخيرتين فإن تعنت ترمب وعدوانيته أكثر ايجابية لقادة بروكسل من أن يكون إيجابيا .
وفي كل الأحوال فإن وصول ترمب أو بايدن الى البيت الأبيض لن يغير اتجاه الأوروبيين لإعادة رسم خارطة التحالفات السياسية والاقتصادية للاتحاد الأوروبي وبناء أوروبا جديدة قوية ومستقلة سياسيا وعسكريا واقتصاديا عن حلفائها التقليديين بعد الحرب العالمية الثانية .
ناصر زهير | مستشار العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي
مركز جنيف للدراسات السسياسية والدبلوماسية
Comments