
مركز جنيف للدراسات ـ مكتب برلين ـ يناير 2021 : صحيح أن الحكومة الألمانية "تتطلع إلى فصل جديد في العلاقات مع واشنطن" بحسب وصف المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل أمس بعد تنصيب جو بايدن رئيسا أمريكيا جديدا وأن الترحيب بقدوم الرئيس الديمقراطي شمل الوسطين السياسي والاقتصادي في ألمانيا، إلا أن أفضل وصف لهذه العلاقة جاء على لسان وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس الذي بقي واقعيا في تقييمه لمستقبل علاقة بلاده مع واشنطن عندما قال "رغم أن مجالات تعاون كثيرة تجمعنا إلا أننا لن نكن مع الإدارة الأمريكية الجديدة متفقين حول جميع المسائل ففي النهاية كل طرف فينا لديه مصالحه الخاصة".
هذا الاختلاف في المصالح كان بالفعل بائنا عندما وقع الاتحاد الأوروبي بناء عل رغبة ألمانيا التي ترأست في النصف الثاني من العام الماضي المجلس الأوروبي، وقع قبيل انتقال السلطة في واشنطن عن اتفاق استثماري مع الصين تعارضه أيضا إدارة بايدن بوضوح ويأتي متناقضا مع السياسة الأمريكية "فك الارتباط الاقتصادي" مع بكين. هذا الاتفاق الاستثماري لا يسهل فقط عبور الشركات الأوروبية إلى الأسواق الصينية الواعدة، بل أيضا يناقض سياسة "فك الارتباط" التي تسعى إليها واشنطن في علاقاتها مع الصين. إضافة إلى ذلك، جاء إعلان الاتحاد الأوروبي مؤخرا جعل العملة الأوروبية الموحدة (يورو) أكثر قوة في أسواق المال العالمية على حساب الدولار ليؤكد من جديد على مساعي الأوروبيين الرامية إلى الاستقلال عن الولايات المتحدة ليس فقط من الناحية العسكرية، بل أيضا اقتصاديا وماليا.
هذا ينطبق كذلك على العلاقة مع روسيا ويشمل ملف طاقة متحرك وحيوي هو مشروع خط الغاز (نورد ستريم 2). فبينا تصر الحكومة الألمانية ومعها حكومات من الوزن الثقيل في الاتحاد الأوروبي على ضرورة استكمال هذا المشروع، تعارضه إدارة جو بايدن أيضا (آخر مرة على لسان وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنطوني بلينكين الذي اعتبره فكرة ليست جيدة) وبعض الحكومات في أوروبا الشرقية التي يستثنها هذا الخط الذي يربط بين اليابستين الروسية والألمانية. من هنا، يبدو أن السعي الأمريكي لإفشال هذا المشروع شبه المكتمل سيصطدم بقناعة ألمانية بالجدوى الاقتصادية لهذا المشروع وبأن معارضة واشنطن له تأتي بسبب رغبتها في بيع الغاز المسال الأمريكي باهض الثمن وتكاليف الاستخراج في أوروبا.
هذه المساعي الألمانية والأوروبية تستطيع برلين وبروكسل إسنادها بمزاج شعبي مؤيد لاستقلال أوروبا عن الولايات المتحدة على الأصعدة الدولية والعسكرية والأمنية. فبحسب دراسة لـ (European Council on Foreign Relations (ECFR)) شملت دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، يؤيد 67 من الأشخاص الذين شملهم المسح الاستقلال عن الولايات المتحدة في المجال العسكري، ولكن المفاجئ هو أن الثلثين لا يؤيدان الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في صراعها مع الصين.
الحكومة الألمانية والرأي العام يدركان أن الإدارة الأمريكية الجديدة قد تختلف مع سابقتها في اللهجة، ولكن الخلافات حول ملفين مهمين هما التجارة ونفقات حلف شمال الأطلسي ستستمر لأنها في الجوهر والأساس ما زالت قائمة وستؤدي إلى مواصلة إدارة بايدن أيضا مطالبة الألمان بتقليص تفوقهم في الميزان التجاري مع بلاده وبزيادة نفقاتهم في الحلف الأطلسي بحسب مخرجات قمة الحلف في (ويلز) التي تنص على أن يدفع الألمان مثل غيرهم 2 بالمئة من ناتجهم القومي المحلي في هذه النفقات. إذا الخلاف بين الإدارتين الأمريكيتين قد يكون في اللهجة وليس في الجوهر. ولكن المشكلة الأساسية التي تواجه ألمانيا في الخلاف العسكري هو ناتجها القومي المحلي الضخم، إذ تدفع ألمانيا في الوقت الراهن قرابة واحد فاصلة ثلاثة بالمئة من ناتجها القومي المحلي في النفقات العسكرية (قرابة 30 مليار يورو) وتعد بأن تصل إلى واحد فاصلة خمسة بالمئة في غضون قرابة خمسة أعوام. ولكن التزامها بمخرجات القمة المذكورة سيعني استثمار أكثر من 60 مليار يورو في المجالات العسكرية ولكن السؤال المطروح في هذه الحال: هل سيعجب ذلك الجيران والحلفاء الفرنسيين وكيف سيكون رد فعل روسيا؟.
كل هذه المعطيات تشير إلى أن ألمانيا باتت مقتنعة إلى حد كبير بأن الأساسين اللذين قامت عليهما بعد الحرب العالمية الثانية يهتزان: الحماية العسكرية الأمريكية المجانية والأسواق المفتحة. من هنا يمكن القول إن اقتناع الألمان بضرورة الاستقلال عن الأمريكيين بات حقيقة لم تأت على لسان مسؤولين من الصف الثاني في ألمانيا بل على لسان كبار المسؤولين في برلين ووفق مؤسسات حكومية ومراكز صنع قرار قريبة من الخارجية والمستشارية الألمانيتين.
ـ أنجيلا ميركل. مايو 2017:" نحن الأوروبيون يجب علينا أن نحدد مصيرنا بأيدينا".
ـ الدراسة المشار إليها:" 67 بالمئة من الأوروبيين يرون أن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة الأمر الذي يتطلب السعي إلى مزيد من الاستقلالية عنها في الشؤون العسكرية".
ـ الدراسة ذاتها: "61 بالمئة يعتبرون النظام السياسي في الولايات المتحدة معطوبا" (...) " 27 بالمئة فقط يعتبرون أن العلاقات تسير مع الأمريكيين بشكل جيد".
ـ متوسط نسبة المؤيدين للاستقلال عن الولايات المتحدة يبلغ 32 في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي ولكن المفاجئ أن هذا المتوسط تبلغ نسبته في ألمانيا، الحليفة التقليدية للولايات المتحدة 53 بالمئة.
ورغم هذه النتائج المتشائمة بخصوص العلاقان بين ضفتي الأطلسي، إلا أن غالبية واضحة تؤيد تعزيز العلاقات مع الإدارة الأمريكية الجديدة، الأمر الذي بدا واضحا في تصريحات وزارة الخارجية الألمانية ولجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الألماني (بوندستاغ)، وذلك على لسان كبير الدبلوماسيين الألمان، هايكو ماس ورئيس اللجنة المذكورة نوربرت روتغن.
ولا تشمل "القطيعة" إن صح التعبير علاقات ألمانيا مع الصين أو مع روسيا. ففي وقت جهر فيه وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنطوني بلينكن بمعارضته لمشروع الطاقة (نورد ستريم 2)، تسرع وزارة الخارجية الأمريكية المساعي الرامية إلى ضم الجمهورية السابقة في الاتحاد السوفيتي، جورجيا إلى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي سيدخل الحلف في صراع متجدد مع روسيا. علاوة على ذلك، تطالب بعض الأوساط الاقتصادية والسياسية في ألمانيا بتعزيز الفكرة الاقتصادية الروسية الرامية إلى "سوق مفتوح من لشبونة إلى فلادفاستوك"، الأمر الذي يعتبر بالنسبة للأمريكيين من خطوطها الحمراء.
كل ذلك يشير بوضوح إلى أن العلاقة بين ألمانيا التي تحتضن أكبر اقتصاد أوروبي وتعتبر بجانب فرنسا الضامن الأساسي للوحدة الأوروبية من جهة والإدارة الأمريكية من جهة أخرى لن تكن سهلة كما يتمنى البعض ولن تؤسس لعودة الدفء في العلاقة بين ضفتي الأطلسي بغض النظر عن شكل الإدارة الأمريكية. لأن الخلافات في المصالح وبخصوص حزمة من الملفات تبقى في جوهرها واساسها قائمة رغم وجود رئيس جديد في البيت الأبيض يجهر برغبته في رأب الصدع في علاقات بلاده مع الأوروبيين.
مركز جنيف للدراسات السسياسية والدبلوماسية
Comments