
وحدة الأزمات الدولية | ملف العلاقات الأوروبية الروسية
باريس 19 أبريل 2021 - تتصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بشكل متسارع في الأيام الأخيرة فانطلاقا من الخلافات حول قضية أوكرانيا الى قضية طرد السفراء المتبادل بين التشيك وروسيا ونهاية بتصاعد قضية المعارض الروسي أليكسي نافالني.
ومع تصاعد التصريحات الدبلوماسية من المسؤولين الأوروبيين والروس تبقى الأمور محصورة في إطار التصعيد الدبلوماسي وعقوبات محدودة حفاظا على الخطوط العريضة والمهمة في العلاقات بين الجانبين .
و في هذا الإطار يجتمع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي عبر الفيديو الإثنين لبحث مصير المعارض الروسي أليكسي نافالني المريض والمضرب عن الطعام في السجن، بعدما وجهت واشنطن تحذيرا إلى موسكو بأنها ستتحمل "عواقب" في حال وفاته.
وطلب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الذي أوضح الأحد جدول أعمال هذا الاجتماع لصحيفة بيلد، من السلطات الروسية توفير "علاج طبي مناسب" بشكل "عاجل" لنافالني نظرا إلى التدهور "المقلق جدا" في وضعه الصحي. كما طالب بتمكينه من "الوصول إلى أطباء يثق بهم".
وصدرت تصريحات مماثلة في اليوم نفسه عن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي أبدى "قلقا بالغا" حيال وضع المعارض الصحي محملا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "مسؤولية كبرى".
ولوح بفرض عقوبات أوروبية جديدة على روسيا داعيا إلى "اتخاذ تدابير لضمان سلامة نافالني الجسدية وكذلك إطلاق سراحه".
وقال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قبل اجتماع وزراء خارجية الدول الـ27 عبر الفيديو إن "العلاقات مع روسيا لا تتحسن. على العكس، يتصاعد التوتر في مختلف المجالات". وأشار إلى طرد دبلوماسيين بين موسكو وبراغ وإلى الوضع الصحي "المقلق جداً" لنافالني المريض والمضرب عن الطعام في سجنه.
ويأتي هذا الاجتماع الأوروبي لوزراء الخارجية في محاولة لصياغة موقف موحد في التعامل مع روسيا أو على الأقل إظهار وحدة أوروبية على الرغم من عدم توافق الرؤى بين دول الاتحاد في طريقة التعامل مع موسكو .
ـ ألمانيا وفرنسا وإدارة المواجهة مع روسيا ..
في داخل الاتحاد الأوروبي هناك توجهين للتعامل مع روسيا، فجزء من دول الاتحاد مثل بولندا والتشيك ولاتفيا وبعض دول أوروبا الشرقية ترى بأن هناك ضرورة للتشدد في مواجهة روسيا واستخدام كل وسائل الضغط الممكنة بما فيها العقوبات الاقتصادية الكبرى وإيقاف مشروع الطاقة " السيل الشمالي 2 " .
أما على الجانب الأخر فتقف الدول الأوروبية المؤثرة في الاتحاد ومنها فرنسا وألمانيا وإيطاليا التي تطالب بعلاقات مستقلة ومتوازنة في التعاطي مع موسكو وفقا للمصالح الأوروبية وليس للمصالح الأمريكية - الأوروبية، وهذا ما تدفع باتجاهه كل من فرنسا وألمانيا اللتان تقودان الاتحاد الأوروبي على الرغم من اختلاف طريقة كل منهما في إدارة ملف العلاقات مع روسيا .
فألمانيا قاومت ضعوط أمريكية كبيرة جدا لإيقاف مشروع " السيل الشمالي 2 " بين روسيا وألمانيا طوال السنوات الأربعة التي كان فيها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في البيت الأبيض، حتى وصل الأمر الى فرض عقوبات أمريكية على الشركات الأوروبية التي تعمل في هذا المشروع وعلى الرغم من ذلك بقيت ألمانيا متمسكة بموقفها على الرغم من أن هذه الدعوات انتقلت الى دول من داخل الاتحاد الأوروبي طالبت برلين باتخاذ خطوة إيقاف المشروع .
ـ فرنسا و استراتيجية الحوار والعقوبات والخطوط الحمراء ..
تبرز فرنسا على الجانب الأخر والمهم والموازن في العلاقات الروسية الأوروبية بشكل مستقل عن التوجهات الأمريكية " قدر المستطاع "، فعلى الرغم من كل الخلافات الأوروبية الروسية حول قضايا مهمة واستراتيجية دائما ما كان الرئيس الفرنسي يدعو الى ضرورة تحسين العلاقات الروسية الأوروبية والتعامل مع موسكو بناء على مصالح بروكسل ولا شيئ أخر، ومع كل انتقاد لروسيا وتهديد بعقوبات تبرز جملة استراتيجية من الرئيس الفرنسي وهي " ضرورة الحوار الصريح مع روسيا .
فمن الناحية العملية ترفض فرنسا العودة الى الاستراتيجية الأمريكية القديمة التي تسعى إليها إدارة بايدن وهي وضع الأوروبيين في خط المواجهة الغربي الأول مع روسيا، وضرورة تصرف أوروبا وفق مقياس تحسن أو توتر العلاقات الروسية الأمريكية .
وفي ظل التوترات الأخيرة الغير مسبوقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بما يتعلق بقضية أوكرانيا بالخصوص قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد قمة ثلاثية جمعته بنظيره الأوكراني زيلنسكي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بأنه سيجري اتصال مباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمطالبته باتخاذ خطوات إيجابية و وقف التصعيد والاستفزازات وهو نفس الاتصال المتوقع منه الدعوة أو التفاهم وفق مجموعة النورماندي " فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا " .
والهدف الأساسي لكل من ألمانيا وفرنسا بما يخص أوكرانيا في الوقت الحالي هو خفض التصعيد ونزع فتيل التوتر، وهو إنجاز مهم إذا ما تحقق في الوقت الحالي الذي نشهد فيه أجواء قد تنذر بسيناريوهات كارثية تشبه ماحدث عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم من قبل موسكو والأزمات المتلاحقة التي تبعتها .
وتدرك الدبلوماسية الفرنسية جيدا بأن الأزمة الحالية لا تتعلق بالخلافات الكلاسيكية بين أوكرانيا وروسيا، بل تتعلق بآلية ما يدور في الكواليس الدبلوماسية والعسكرية العالمية من ضم أوكرانيا الى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وهو الأمر الذي ترفضه روسيا بشدة نظرا لأنه يضع الناتو وصواريخه على حدودها المباشرة في أوكرانيا .
ومن المعروف للجميع بأن فرنسا ورئيسها لا يتحمسون كثيرا لحلف الناتو ويعتبرون بأنه بلا فائدة لأوروبا وفرنسا بالخصوص وبالتالي هم غير معنيين بالتوجه الأمريكي لتوسيع الحلف و إدخال أوكرانيا فيه، ويبدو بأن ماكرون بشكل أو بأخر أفهم نظيره الأوكراني زيلنسكي هذه النقطة جيدا وحاول فرملته من الاندفاع بهذه الخطوة لأن باريس تدرك جيدا بأن الرد الروسي سيكون سيئا جدا على مثل هذه الخطوة ولا أحد يرغب بالذهاب الى ذلك السيناريو السيئ والمعقد في الوقت الحالي .
وعلى الجانب الأخر لا يغفل الجانب الفرنسي التلويح بأوراق الضغط التي يملكها الاتحاد الأوروبي وأولها سلاح العقوبات، وبمعنى على الرغم من حرص فرنسا على علاقات مستقلة وبناءة بين روسيا وأوروبا تدرك باريس جيدا بأن هذه العلاقة يجب أن يتكون متوازنة في القوة وأوراق الضغط من أجل القدرة على إدارة ملفات الصراع بين الجانبين، فالخلافات بين بروكسل وموسكو كبيرة وعميقة ويجب أن تدار بشكل متوازن وقوي حتى تعبر من المطبات الكبرى التي يمكن أن تؤثر على توجه أوروبا ببناء أوروبا جديدة مستقلة سياسيا ودفاعيا كما تدعو فرنسا وألمانيا دائما بعد خروج بريطانيا من التكتبل الأوروبي .
وفي هذا الإطارأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة أجرتها معه شبكة (سي بي إس) الأمريكية بثت مقتطفات منها السبت، أنه "علينا تحديد خطوط حمراء واضحة مع روسيا"، مبديا استعداده لفرض عقوبات في حال أبدت موسكو "سلوكا غير مقبول".
وقال ماكرون ردا على سؤال حول احتمال اتخاذ تدابير ضد موسكو في حال اجتاحت أوكرانيا، في وقت تحشد روسيا قوات متزايدة على الحدود، "أعتقد أنه يعد سلوكا غير مقبول، علينا بالفعل فرض عقوبات". وأضاف "أعتقد أنه يتحتم علينا تحديد خطوط حمراء واضحة مع روسيا".
وإذ أكد ماكرون أن العقوبات وحدها "غير كافية" وأن من الأفضل إقامة "حوار بناء"، اعتبر أن العقوبات تشكل "الطريقة الوحيدة لنكون ذوي صدقية". وقال "إننا بحاجة إلى حوار صريح ومنفتح مع روسيا".
ومن هنا يمكن اعتبار بأن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة التي يطرحها ماكرون للأوروبيين يجب أن تكون أولا بتحديد خطوط حمراء لتعامل الغرب مع موسكو واتخاذ خطوات كبيرة تجاه انتهاكات روسيا لهذه الخطوط، " بمعنى عدم إثارة أزمات دبلوماسية كبيرة بين الجانبين الأوروبي والروسي عند كل كبيرة وصغيرة في القضايا المشتركة "، والنقطة الثانية في هذا المحور هو التفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية حول القضايا المشتركة بين بروكسل و واشنطن في التعامل مع روسيا .
أي أن فرضية علاقات " واشنطن - موسكو " سيئة فيجب أن تكون علاقات " بروكسل - موسكو " سيئة، فباريس وبرلين وروما تريد تحديد القضايا المهمة للاتحاد الأوروبي من أجل التناغم مع الولايات المتحدة في مواجهة روسيا فيها وعدم ربط توتر العلاقات أو تحسنها بإطار البوصلة الأمريكية .
وتبقى النقطة الأساسية بالنسبة لباريس هي المطالبة بحوار صريح بكل سلبياته مع موسكو من أجل التوصل الى صيغة توازن الصراع الأوروبي الروسي وتحافظ على الخطوط العريضة من المصالح الأوروبية في أمن الطاقة وأمن أوروبا والمصالح الروسية السياسية والاقتصادية .
وحدة الأزمات الدولية | ملف العلاقت الأوروبية الروسية
مركز جنيف للدراسات السياسية والدبلوماسية
Comments